لايختلف عاقلان تونسيان في التأكيد على أن المشهد الإعلامي في بلادنا كان و لايزال منذ عقود يعزف خارج أوتار الإيقاع التاريخي
ويطغى عليه طابع الرداءة و التبعية السلطوية و ثقافة التبرير و التمجيد و التطبيل والتزمير، خصوصا فيما يتعلق بالملفات السياسية
و الحقوقية و الإقتصادية و الإجتماعية و حتى الرياضية منها . وقد لايحتاج المرء إلى جهد و عناء كبيرين ليعرف أن مصلحة السلطة في بسط نفوذها وإحكام قبضتها الحديدية على الساحة الإعلامية تكمن أساسا في درء الحقيقة و التستر على الواقع المتعفن و تلميع صورة النظام، وهو ما من شأنه أن يفسح الطريق أمامه واسعا لإعادة إنتاج و تحنيط نفسه ، كما لا يحتاج المرء إلى دراسة أو تمحيص ليدرك أن إرتهان أبواق الإعلام للسلطة و التقيد بأوامرها و شروطها يعود إلى حقيقة واضحة و جلية ، عنوانها: الطاعة مقابل المال. غير أن المرء يحتاج لأكثر من جواب لعدة أسئلة محيرة فعلا و تتعلق بأسباب غياب أو تغييب الإعلام العلمي عن الحقل الإعلامي خصوصا إذا مااتفقنا مسبقا على أن الخطاب العلمي المحض لن يحرج النظام بطرح القظايا السياسية أو الحقوقية ، ولا يهدد لا من بعيد ولا من قريب إستقرار و ديمومة كراسي الفر يق الحاكم ،إلا إذا استثنينا طبعا قضية الزيت الفاسد !في بادىء الأمر جدير بنا أن نوضح أن المقصود بالإعلام العلمي ليس ذلك الإعلام الأكاديمي الموجه للمتخصصين بشكل أساسي ، وإنما المقصود به هو الإعلام العلمي الجماهيري الذي يشمل الكتب العلمية والتكنولوجية المبسطة ، والصفحات العلمية بالصحف والمجلات ،والبرامج الإذاعية و التليفزيونية ، والوسائط المتعددة من أقراص مدمجة أو أفلام تسجيلية ، وأخيرا مواقع الإنترنت التي تجمع كل ذلك .
إذ لايكاد يبزغ فجر أو تشرق شمس حتى يتوصل العلماء في كل أصقاع الدنيا إلى العديد من الإختراعات المبتكرة المتفردة ، تدفع بحياة الناس اليومية إلى دروب جديدة في عالم المستقبل وتضع آفاقا رائعة للزمن الآتي ومجتمع الغد . وهنا يلعب الإعلام العلمي دور اللاعب الرئيس في تقريب العلم للجماهير بأسلوب مبسط ومشوق ، والتعريف بكل ماهو حديث متطور في المجالات العلمية والتكنولوجية وذلك من خلال وسائل الإعلام آنفة الذكر .
فالقضايا العلمية الملحة والمستجدات والإختراعات الحديثة قد فرضت نفسها وبقوة على مراسم حياتنا بل وعلى أجندة أحاديثنا اليومية ،
فغزو الكوكب الأحمر المريخ ووصول " سبرات " مثلا إلى ذلك الكوكب الغامض قد فرض نفسه على إهتمام العامة والخاصة في العالم أجمع ، كما أن مشاكل التلوث الهوائي والسحب السوداء وغيرها قد كتمت أنفاسنا وتوغلت آثارها في جميع شعاب أجهزتنا التنفسية ،
وهو ما اضطر الجميع للتساؤل ما السبب ؟ وكيف تحدث ؟ وما سبيل الخلاص منها ؟ وليست هذه إلا بعض الأمثلة على أهمية العلمي لسلامتنا وحياتنا اليومية . وكما كنا تعلمنا في مقاعد الدراسة ، يتعلم الناشئة اليوم أن مجموعتنا الشمسية تضم تسع كواكب تدور كلها حول الشمس في شكل مدارات بيضاوية ، أبعدهم مسافة عن الشمس هو كوكب " بلوتو " ، غير أن الإتحاد الدولي لعلماء الفلك أعلن في أوت 2006 عن تجريد هذا الأخير من مكانته ككوكب وإنزال رتبته إلى مرتبة ثانوية هي مرتبة " الكوكب القزم " ، وبهذا التغيير يصبح
عدد كواكب مجموعتنا الشمسية ثمانية فقط وليس تسع كواكب كما كان عليه الحال طيلة عقود من الزمن . فلماذا مثلا لم يتكرم معالي الأمور في وزارة التربية على رجال التعليم بمدهم بوثائق إخبارية علمية تكشف هذا التحوير الأخير ليستنيروا وينيروا به تلاميذهم ؟
فهل أننا معشر التونسيون " ربيـّنا الكبدة " على كوكب بلوتو ولا يمكننا التفريط فيه ولا نعير إهتماما للمتغيرات الدولية كما هو معمول به عندنا في الشأن السياسي ؟ أم أن ثقافة " من اعتلى منزلة استأثر بها مدى الحياة " تغلغلت عميقا في عقولنا واتسعت لتطال المجال العلمي ، حتى بتنا لا نقبل بمبدأ التداول السلمي لصفة الكواكب ، ولذلك نرفع شعار " بلوتو كوكبا مدى الحياة " ؟ .
وتعاني قضية الإعلام العلمي في بلادنا من عدة مشاكل تعود في الأساس إلى أن الطابع الغالب على ثقافتنا التراثية هو ثقافة أدبية وهو ما يفسر ندرة الكتاب العلميين أو المتخصصين في الإعلام العلمي وغياب كتب تبسيط العلوم ومجلات الثقافة العلمية للكبار والصغار . ولا نستطيع أن نعفي صحافتنا المكتوبة من المسؤولية في تفحش الفجوة المعرفية لاسيما فيما يخص قضايا التنوير العلمي والثقافة العلمية ولو حاولنا أن نتفحص ما يقدم في الصحف اليومية أوالأسبوعية عندنا فلن نجد للعلم حصة بينها إلا فيما ندر . وحتى الصحف التي تصنف نفسها الأكثر إنتشارا في بلادنا تجدها " تشخر في السابع نومة " ، ولا يحتاج القارئ لأكثر من بضع دقائق ليلتهم كل ما نشر فيها ، إذ بمجرد أن تتجاوز سريعا صفحات الإنجازات والأخبار السياسية البائتة وصولات الأحزاب المطيعة وآخر بيانات التثمين والإشادة والمناشدة ، وقبل أن تتصفح حزمة أوراق العجرميات والهيفاويات ، تعترض سبيلك محاضرات فطاحل الحداثة التونسية ، وما إن ترتوي منها يحط بك الرحال في صفحات حداثة أخرى ، حداثة غير حداثة عصرنا ، إنها حداثة العصر الحجري ، لتصهدك بجحافل سلاطين العرافة الذين لا يشق لهم غبار ، ويعلمونك أن أيديهم تجمد الماء وإنجازاتهم تجمد العقول ، يقرؤون لك ماضيك وحاضرك ومستقبلك وجزائك في الآخرة ، يطلعونك كم بلغ رصيدك البنكي في " الروج " ، ويكشفون لك أسرار العمل والحب والزواج ، يزيلون السحر ويصلحون بين الأزواج ، يداوون البوصفير والفدة وأمراض السكري والحجر في الكلية والعقم الجنسي والروماتيزم وحالات الإغماء
والجنون ، فتقول لنفسك " لقد سلّـكها فرويد " ، وإلا فمن سيصغي إليه لو كان تونسيا وجاء في هذا الزمن العجيب ؟
ثم تعترضك صفحات الرياضة ومل أدراك ماالرياضة ، إنها رياضة ترويض عقول الشباب المتخم بالبطالة السافرة التي لا يعلمون أسبابها
فقد تعود لتأخر في المناشدة أو لنكران لنعمة الإنجازات أو لأسباب أخرى علمها عند الله وعند سلطتنا وبعض من عرافتنا ، والختام صفحات الإشهار المقنع ، إنه الطريق القصير للكسب السريع ، خصوصا وأن مواردنا محدودة ، فلا حقول نفط عندنا ولا مناجم ذهب نملك ، حتى أنه من سوء حضنا أن " نـوبل " – سامحه الله – لم يترك في وصيته جائزة علوم الثلب والتجريح ، وإلا لكانت صحيفتنا
" الوطنية " الرشيقة " الحدث " متربعة عليها بلا منازع ، فلا يسعنا إلا أن نحيي الساهرين منهم على هذا العلم ، نحيي منهم كل المأجورين والمأجورات ، المرتزقين والمرتزقات ، المتمعشين والمتمعشات ، الأحياء منهم والأموات ، نحييهم كلنا قوابسية وجنادبة وصفاقسية ، كليبيست ومكشخين وإيتواليست ، يساريين ويمينيين ، مالكيين وحنبليين .وعندما يأتي يوم العلم ترى صحفنا تجعجع العلم وتتجشأ التكنلوجيا وهي لاتتورع عن الإشادة بالعناية الفائقة التي يوليها سيادته للعلم والعلماء ،فيذهب بك الظن إلى الإعتقاد بأن وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا " تونسية الأصل - دما ولحما – غير أنه وقع التفويت فيها عملا بموضة التفويت في الوطن " قطرة قطرة وهو ما يمكننا من ضرب عصفورين بحجر واحد ، فمن جهة ينتفع الشعب بعائدات التفويت فيعم الخير والرخاء جميع البلاد والعباد ،خصوصا وأن عدد سكان بلادنا يربو عن العشرة ملايين نسمة ، وهو رقم صغير، فناطحة السحاب لدار " الحزب " وحدها كفيلة باستيعابه ، ومن جهة ثانية تتجنب سلطتنا المصاريف الباهضة لغزو الفضاء وبعث الأقمار الإصطناعية ومشاكلها التقنية العويصة والأخطار والكوارث التي تحيط بها من كل حد وصوب ، ثم ما شأن سلطتنا أصلا وهذه المشاكل المصدعة للرؤوس ، فمصيبة حقوق الإنسان وحدها تكفيها ، و مشكلة الدستور وترقيع ما جاء به من فصول ، وكارثة صحيفة " الموقف " التي تقض مضجعها ، كلها مسائل كفيلة بأن تضنيها وعن هموم الدنيا تلهيها . عموما هذا هو واقع صحفنا ، فلا تجد ملحقا علميا أو صفحة قارة متخصصة للحديث عن العلوم والتكنلوجيا ، وإن وجدت في أحد الأعداد فهي تتسم بالكلاسيكية أخبارها وتحقيقاتها ، وبالسطحية والتجرد من أية رسوم بيانية وأشكال توضيحية وبيانات موثقة يمكن أن تجذب القارئ أو تسهل مهمته في استيعاب المعلومة أو الإلمام بالموضوع ، وبهذه الطريقة يغيب الوعي العلمي ودور العلم وتطبيقاته عن إدراك الشخصية في بلادنا ، فهي في الأصل لا تقرأ ، وإن قرئت لا تجد عادة ما يروي ظمأها للمعرفة والعام ، وإن وجدته يعتريها مصاعب جمة في فهم محتوى المقالات والمواضيع العلمية المطروحة نظرا لجفاء أسلوب بعضها أو عدم إستيعاب الكاتب للموضوع مع إفتقار المادة المكتوبة للإحصاءات أو الرسوم التوضيحية ، لذا فإن الموضوعات العلمية المنشورة في تلك الصفحات تثير في الواقع غموضا ولغطا أكثر مما تقدم حقيقة أو معلومة ، ومن هنا تبدو حالة صحافتنا العلمية أقرب حاليا للعدم منها للوجود .وأحسب أن الإعلام العلمي الحقيقي هو نموذج أو منظومة قاعدتها الأساسية الإيمان الراسخ بأن العلوم والتكنلوجيا ليست قضية مهارات يتعلمها الأفراد ، ولا سلعا ومنتجات يجري ترويجها في الأسواق ولا أمور يهتم بها خاصة الخاصة ولا طرائف يتم تداولها بالصدفة ولا حالة إنبهار بما يخرج من مختبرات الآخرين ، بل هي قضية تنموية وطنية بالدرجة الأولى ، لاتقل في أهميتها وشمولها واتساعها بالنسبة لمجتمعنا عن قضايا الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان والإصلاح السياسي والإنماء الإقتصادي ، وهي ليست إختيارا بقدر ما هي طريق حتمي لا مناص منه ينبغي المضي فيه ، تفرضه المتغيرات الدولية ومفرداتها الذائعة من عولمة وعسكرة ، وإلا فمصيرنا سيكون مزيدا من الضحالة والتسطح العلمي والفكري .
ظاهـر المسعـدي
Tunisnews_ Arabic 13/05/2008
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire